تأكلني كل العيون..
تتقاذفني كل الظنون..
ولا يمر بي عابر ..
ولا يسير بجنبي سائر ..
إلا وسألني ..
عن سر الجنازة التي أحملها في وجهي ؟
كل الذين يعرفوني يسألون ْ ؟
وكل الذين لا يعرفوني يتفكّرون ... ؟
الكل يسأل .. والكل يتفكّر ..
ما بال تقاسيمي ينهشها الحداد ؟
ما بال ملامحي يهاجمها الجراد ؟
لا يمر بي عصفور ..إلا وسألني أين عشه اليوم ْ ؟
لا تمر بي نجمة إلا وسألتني أين سمائها اليوم ؟
ولا تمر بي حكمة ولا نصيحة إلا وسألتني
ماذا فعلت بنا ، لماذا لم تعد تحملنا عصاتك ،
لم تعد ترفعنا كلماتك ،
لماذا ؟ لماذا أعلنتَ وفاتك ؟
ماذا أقول ُ ؟
.. و الموت ذاك الذي قتل حكمتي .. وانتهك نصيحتي ، وعقر أخوّتي على باب الشيطان ،
يجعلني أسأل فمي ما قيمة أن أقول لصوتي تكلّم ،
ما قيمة أن أقول لحزني تعلّم ،
ما قيمة أن أقول لهم وأجيبهم ،
ما القيمة إذا كان الطير كسر غصني واستباح حزني ثمَ
باعني وباع جميع عشي وعشبي
من أجل ِ الخطوة التي تمضي للجحيم ْ .
من أجل اللحظة التي تذهب للرجيم ْ ..
من أجل أني أردتك نجمة .. وأردتك سماء .. وأردتك ماء .. وأردتك بعيدة كل البعد ِ عن أسباب الخواء ْ ..جازيتي صنيعي بأن تعلميه كيف يموت !
أنا النحيب ُ .. وأنا الغابات المدلهمة الأنين ْ ..
وأنا العصفور ُ الحزين .. وأنا الأسد الذي فقد العرين ..
أنا الأجنحة المحطّمة .. وأنا الخسران المبين ْ ..
أنا الذي صاح حين سمع صوتا ً .. ما الذي تكسّر الآن ..؟
وأجابه الصدى : " تكسّر صوتك " تكسّر صوتك يا صوت ُ المحبين ْ ..
أين أشربك اليوم يا قهوة الصباح .. أين ؟
أين آخذك وكل الطاولات تشبهها كثيرا ً ... وكل الصالات وكل المطارات
وكل السفارات تشبهها كثيرا ً ..
وكل العمارات تسكُنها كثيرا ً ..
وكل القصاصات تذكرها كثيرا ً .. أين أسافر بك اليوم يا قهوتي .. أين ؟
أين أشربك اليوم وأنا حين أعود أشربها ..
وحين أهم في سفري أشربها ..
وحين يستقبلوني في سفري أشربها ..
وأنت ِ يا قهوتي لا تذهبي أبدا إلى البعيد ..
تبقين قريبة منّي .. لا تخرجي من صوتي أبدا ً .. ولا تخرجي من حنجرتي ومن بلعومي ومن يأسي .. ومن بأسي .. تبقين قريبة لتفضحيني ..
لهذا يسألون ويتفكّرون عن سر ِ الجنازة التي أحملها في وجهي ، جنازة التقاسيم يا قهوتي ؟
أيُها الحزن الصديق ..
شطبت كل الأجندات ..
وقاطعت كل الصديقات ..
وهجرت كل القريبات ..
وأصبحت وحدي كأني لم أكن يوما .. ذلك الإنسان الذي عاث حنانا في القلوب .. وعاش سلاما في العيوب .. أصبحت وحدي وكأني ذلك المجهول الذي لمّا ولن يشربها يوما ً .. فأنا اليوم يا حُزني سأتوب ْ ..
سأتوب عن الثقة ْ ..
عن النصح ْ ..
عن العون ْ ..
عن تقديم الحلول ْ ..
سأتوب عن فهرسة الأشياء ْ ..
عن فلسفة الأحياء ْ ..
عن تدوين الشوق ْ ..
عن تخليد الذوق ..
وعن وصف الغروب ْ ..
سأتوب اليوم عن غفران الخطايا ْ ..
سأتوب اليوم عن لغة ِ النوايا ...
سأتحدث بشريعة ِ النسيان والتجاهل ْ ..
وسأعيش بقانون الاستخفاف والهروب ..
سأكون كالذنوب ْ ..
جاحدا ً مُظلما ًَ .. مضطهدا ً ..
وسأعتنق الخرافات .. وأصادق الرعد .. وأضاجع الإساءة ..
سأعلن الكفاءة ..
سأقول أن الكفاءة هي " السفالة "
سأقول أن الأمانة هي " العمالة "
سأقول أن الشرف هو " الحثالة "
سأقول أن الصدق " كذبة " وأن الخير " بغلة " وأن العشق " لعبة "
سأقول يا قهوتي وسأرضيك .. وأرضي كل مذاقك الذي يموت ...
سأرضي غرور كل أوهامكِ التي تفوت ْ ..
سأرضي كل أحلامكِ التي أكلها العنكبوت ْ ..
سأرضيكِ كثيرا حتى " أموت " ْ
حتى " أموت "ْ ..
حتى أموت ْ ..
.........
أيُها الحزن ُ الصديق ..
كن صفيقا ً كي تقف في وجه الرياح العاتيات ْ ..
كن نذلا ً كي تكون كائنا كبقيّة الكائنات ْ ..
كن سافلا ً كي تنجو من كيد ِ الساقطات ْ ..
تعلّم أن تهرب من الجراح النازفات ْ ..
تعلّم لكي أكرهك ..
تعلّم لكي أنبذك ..
تعلّم لأني أريد أن أقتلك ..
تعلّم لأني لا أريد أن أموت وأنت معي ..
تعلّم كي استطيع أن أهزمك قبل أن أموت ْ ..
تعلّم .. فغدا ً سيأتي .. بعد موتي .. صباحا ً لا يموت ..
سيأتي مثلما يحب الله .. ومثلما يريد الله ..
سيأتي خيرا ً كثيرا ً كأشجار التوت ْ ..
سيأتي وحينها ستعلم من فينا كان يقطن في " صَدفة "
ومن فينا كان يقطن في " تابوت "ْ
ستعلم من فينا كانت شريعته ،، شريعة الغاب ْ ..
ومن فينا كانت شريعته .. شريعة " الياقوت "ْ ..
سيأتي غداً .. نصحي الذي قتلتي ..
وصوتي الذي كسرتي ..
وبنيان الود الذي هدمتي ..
وفنجان قهوتي الذي حطّمتي ..
وسيقفون جميعا على باب ِ القيامة ..
سيقفون جميعا على باب ِ من لا يموت ْ ..
حينها ستعلمين من كان حقله الأخلاق ْ ..
ومن كان حقله ُ " الطاغوت "ْ ..
